الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (4): {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}.قِيلَ: الرُّوحُ هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [21/ 91]، وَيَكُونُ فِيهَا أَيْ فِي جَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.وَقِيلَ: إِنَّ الرُّوحَ نَوْعٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسْتَقِلٌّ، وَيَكُونُ فِيهَا ظَرْفٌ لِلنُّزُولِ أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}.الْأَمْرُ يَكُونُ وَاحِدُ الْأُمُورِ وَوَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ شَامِلٌ لَهُمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ الْأَوَامِرِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36/ 82].وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ فِي شَأْنِهَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [44/ 4- 5].وَالَّذِي يُفْرَقُ مِنَ الْأَمْرِ، هُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ. حَيْثُ يُفْصَلُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السِّيَاقُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [44/ 8]، فَكُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَقْتَضِي أَمْرًا مِنَ الْأَوَامِرِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي مَعْنَيَيْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..تفسير الآية رقم (5): {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.قِيلَ: سَلَامٌ هِيَ أَيْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ لَقِيَتْهُ.وَقِيلَ: سَلَامٌ هِيَ أَيْ كُلُّ أَمْرٍ فِيهَا فَهُوَ سَلَامٌ، وَلَا يُصَابُ أَحَدٌ فِيهَا بِسُوءٍ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَالْأَوَّلُ جُزْءٌ مِنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَجْعَلُهَا ظَرْفًا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَيَنْفِي عَنْهَا كُلَّ شَرٍّ، وَمِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، سَلَامُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.لَطِيفَةٌ كَوْنُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ هُنَا فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، مُشْعِرٌ بِفَضْلِ اخْتِصَاصِ اللَّيْلِ.وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ إِلَى نَظَائِرِهِ، فَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [17/ 1]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [17/ 79]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [50/ 40]، {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [73/ 6]. وَقَوْلُهُ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [51/ 17].وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» الْحَدِيثَ.وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّيْلَ أَخَصُّ بِالنَّفَحَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِتَجَلِّيَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَذَلِكَ لِخُلُوِّ الْقَلْبِ وَانْقِطَاعِ الشَّوَاغِلِ وَسُكُونِ اللَّيْلِ، وَرَهْبَتُهُ أَقْوَى عَلَى اسْتِحْضَارِ الْقَلْبِ وَصَفَائِهِ..سُورَةُ الْبَيِّنَة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم..تفسير الآية رقم (1): {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}:قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْقِيَامَةِ، وَسُورَةَ الْبَلَدِ، وَسُورَةَ الْمُنْفَكِّينَ، وَسُورَةَ الْبَرِيَّةِ، وَسُورَةَ لَمْ يَكُنْ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.ذَكَرَ هُنَا الَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ جَاءَتْ مِنْ، وَجَاءَ بَعْدَهَا أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ يَشْمَلُ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُشْعِرُ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِوُجُودِ الْعَطْفِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.وَهَذَا الْمَبْحَثُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْكُفْرَ يَجْمَعُ الْقِسْمَيْنِ.وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ هَلِ الشِّرْكُ يَجْمَعُهُمَا أَيْضًا أَمْ لَا؟فَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، عُمُومٌ فِي الْكُفْرِ وَخُصُوصٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَخُصُوصٌ فِي الْمُشْرِكِينَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.وَلَكِنْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الشِّرْكِ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [9/ 30- 31].فَجَعَلَ مَقَالَةَ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِشْرَاكًا.وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَنْعُ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَقَالَ: وَهَلْ أَكْبَرُ إِشْرَاكًا مِنْ قَوْلِهَا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [2/ 116]، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ فِي مَنْعِ الزَّوَاجِ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ، إِلَّا أَنَّهُ اعْتَبَرَهُنَّ مُشْرِكَاتٍ.وَلِهَذَا الْخِلَافِ وَالِاحْتِمَالِ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مُسَمَّى الشِّرْكِ، هَلْ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّنَا وَجَدْنَا فَرْقًا فِي الشَّرْعِ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَحَلَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحِلَّهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَحَلَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ وَلَمْ يُحِلَّهُ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [2/ 221].وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [60/ 10].وَقَالَ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [60/ 10]، بَيَّنَ مَا فِي حَقِّ الْكِتَابِيَّاتِ قَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [5/ 5]، فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ فِي الْحُكْمِ.وَقَدْ جَمَعَ وَالِدُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيْنَ تِلْكَ النُّصُوصِ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَمْعًا مُفَصَّلًا مَفَادُهُ أَنَّ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أَنْوَاعٌ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُتَّصِفُونَ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ.وَلَعَلَّ فِي نَفْسِ آيَةِ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ يُشَابِهُونَهُمْ فِي مَقَالَتِهِمْ، وَهَذَا الْقَدْرُ اتَّصَفَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ.الثَّانِي: تَذْيِيلُ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَمَّا يُشْرِكُونَ بَيْنَمَا وَصَفَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فِي سُورَةِ الْبَيِّنَةِ بِالِاسْمِ وَالْمُشْرِكِينَ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَصِيغَةَ الِاسْمِ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ، فَمُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ دَائِمُونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقَعُ مِنْهُمْ حِينًا وَحِينًا.وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْكُفْرَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَوَرَّثَ الْجَمِيعَ مِنْ بَعْضٍ، وَمَنَعَ الْآخَرُونَ عَلَى أَسَاسِ الْمُغَايَرَةِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.تَنْبِيهٌ:بَقِيَ الْمَجُوسُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ».وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} اخْتُلِفَ فِي مُنْفَكِّينَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، حَتَّى قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ عِنْدَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ الْبَسِيطِ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ.ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُلَخِّصْ كَيْفِيَّةَ الْإِشْكَالِ فِيهَا.وَأَنَا أَقُولُ وَجْهَ الْإِشْكَالِ: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُمْ مُنْفَكُّونَ عَنْ مَاذَا، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ، إِذِ الْمُرَادُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ.فَصَارَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ عَنْ كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، الَّتِي هِيَ الرَّسُولُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُفْرَهُمْ قَدِ ازْدَادَ عِنْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ تَنَاقُضٌ فِي الظَّاهِرِ، هَذَا مُنْتَهَى الْإِشْكَالِ فِيمَا أَظُنُّ. اهـ. حَرْفِيًا.وَقَدْ سُقْتُ كَلَامَهُ لِبَيَانِ مَدَى الْإِشْكَالِ فِي الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى تَارِكِينَ: وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ.وَالَّذِي جَاءَ عَنِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ: أَنَّ مُنْفَكِّينَ أَيْ:مُرْتَدِعِينَ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، أَيْ: أَتَتْهُمْ.وَلَكِنْ فِي مُنْفَكِّينَ، وَجْهٌ يَرْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُنْفَكِّينَ بِمَعْنَى مَتْرُوكِينَ لَا بِمَعْنَى تَارِكِينَ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا جَمِيعًا مَتْرُوكِينَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [75/ 36]، وَقَوْلِهِ: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [29/ 1- 2]، أَيْ: لَنْ يُتْرَكُوا وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [11/ 53].وَقَدْ حَكَى أَبُو حَيَّانَ قَوْلًا عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلُهُ: وَيَتَّجِهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بَارِعُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُنْفَكِّينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ، حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ رَسُولًا مُنْذِرًا، تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُتِمُّ عَلَى مَنْ آمَنَ النِّعْمَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كَانُوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ يَتَّفِقُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيُزِيلُ الْإِشْكَالَ الْكَبِيرَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، كَمَا أَسْلَفْنَا.وَلِابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ نَسُوقُهُ لِشُمُولِهِ، وَهُوَ ضِمْنُ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجْمُوعِ مُجَلَّدِ 61 ص 594 قَالَ:وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُنْفَكِّينَ}.ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.هَلِ الْمُرَادُ: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عَنِ الْكُفْرِ؟أَوْ هَلْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى بُعِثَ، فَلَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَالتَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ حَتَّى بُعِثَ.أَوِ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ حَتَّى يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ.وَنَاقَشَ تِلْكَ الْأَقْوَالَ وَرَدَّهَا كُلَّهَا ثُمَّ قَالَ: فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ، أَيْ: لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ مَفْكُوكِينَ، بَلْ قَالَ: مُنْفَكِّينَ، وَهَذَا أَحْسَنُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ.وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ، فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، لَا يُؤْمَرُ، وَلَا يُنْهَى، أَيْ: أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ الْبَتَّةَ، بَلْ لَابُدَّ أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى.وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [43/ 3- 5]. وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: لِأَجْلِ إِسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إِنْزَالَ الذِّكْرِ، وَنُعْرِضُ عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ.تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مُنْفَكِّينَ مَعْنَى مَتْرُوكِينَ وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَيَسْتَقِيمُ السِّيَاقُ، وَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً}.أَجْمَلَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ فَصَّلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا.وَفِي هَذَا قِيلَ: إِنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ نَفْسُ الرَّسُولِ فِي شَخْصِهِ، لِمَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [61/ 6]، وَقَوْلِهِ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [2/ 146].فَكَأَنَّ وُجُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَاتِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ.وَلِذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا يَوْمَ مَوْلِدِهِ بِظُهُورِ نَجْمِ نَبِيِّ الْخِتَانِ إِلَى آخَرِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِمَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ كَمَا قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ لَهُ وَفَزَعِهِ مِنْهُ: «كَلَّا وَاللَّهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ» إِلَى آخِرِهِ.وَقَوْلِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ لَعِبَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ كِذْبَةً» إِلَخْ. وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ.وَحَادِثَةُ شَقِّ الصَّدْرِ فِي رِضَاعِهِ، بَلْ وَقِيلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، لَمَّا تَعَرَّضَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ تُرِيدُهُ لِنَفْسِهَا، فَأَبَى. وَلَمَّا تَزَوَّجَ وَدَخَلَ بِآمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: لَا حَاجَةَ لِي بِكَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ كُنْتِ تَتَعَرَّضِينَ لِي؟ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ نُورًا فِي وَجْهِكَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي، فَلَمَّا تَزَوَّجْتَ وَضَعْتَهُ فِي آمِنَةَ وَلَمْ أَرَهُ فِيكَ الْآنَ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيكَ.فَكُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي شَخْصِهِ بَيِّنَةٌ لَهُمْ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ، فَكَانَ رَسُولًا يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالزَّيْغِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْقُرْآنِ.وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [33/ 49] فَعَلَيْهِ يَكُونُ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} بَدَلٌ مِنَ الْبَيِّنَةِ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ مَا يَأْتِيهِمْ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ.فَالتَّشْرِيعُ الَّذِي فِيهَا وَالْإِخْبَارُ الَّذِي أَعْلَنَهُ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ. وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تَصْدُقُ عَلَى الْجَمِيعِ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَلَا رَسُولَ إِلَّا بِرِسَالَةٍ تُتْلَى، وَلَا رِسَالَةَ تُتْلَى إِلَّا بِرَسُولٍ يَتْلُوهَا.وَقَدْ عُرِّفَ لَفْظُ الْبَيِّنَةِ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُجُودِ عِلْمٍ عَنْهَا مُسْبَقٍ عَلَيْهَا.فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الْمَوْصُوفَةُ لَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَخْبَارِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ، وَآخَرِ سُورَةِ الْفَتْحِ: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الْآيَةَ [48/ 29].قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهَا كُتُبٌ}.جَمْعُ كِتَابٍ، وَقَالَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ: كُتُبٌ: بِمَعْنَى مَكْتُوبَاتٍ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قَيِّمَةٌ. يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ.وَحَكَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ.وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْكُتُبَ بِمَعْنَى الْأَحْكَامِ، مُسْتَدِلًّا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [2/ 183] وَقَوْلِهِ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [58/ 21].وَقِيلَ: الْكُتُبُ الْقَيِّمَةُ: هِيَ الْقُرْآنُ، فَجَعَلَهُ كُتُبًا؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ مِنَ الْبَيَانِ.وَذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِي كُتُبٍ أَيِ: الْآيَاتُ الْمَكْتُوبَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ.وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: الْمُرَادُ: الْآيَاتُ وَالْأَحْكَامُ الْمَكْتُوبَةُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَدَلُّ عَلَى تَضَمُّنِ مَعْنَى كُتُبٍ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى كِتَابَةِ أَحْكَامٍ.وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَدْلُولَ: {كُتُبٌ} عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ تَضَمُّنُ تِلْكَ الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ لِكُتُبٍ سَابِقَةٍ قَيِّمَةٍ، كَمَا يَنُصُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [87/ 16- 17]، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [87/ 19]، وَكَقَوْلِهِ فِي عُمُومِ الْكُتُبِ الْأُولَى: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [46/ 30]، وَقَوْلِهِ: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ} [3/ 3- 4].وَلِذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [6/ 114]، أَيْ: بِمَا فِيهِ مِنْ كُتُبِهِمُ الْقَيِّمَةِ الْمُتَقَدِّمِ إِنْزَالُهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [24/ 34].وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [27/ 76].وَقَالَ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [6/ 92]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آيَ الْقُرْآنِ مُتَضَمِّنَةٌ كُتُبًا قَيِّمَةً مِمَّا أُنْزِلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ جَاءَ عَمَلِيًّا فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَوْلُهُ: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَيْ: فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، فَهَذِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، كَمَا قَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [2/ 179].وَلَعَلَّ هَذَا بَيَّنَ وَجْهَ الْمَعْنَى فِيمَا رَوَاهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ الْبَيِّنَةِ، فَقَالَ: أَوَذُكِرْتُ ثَمَّ؟».وَبَكَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِأَنَّهُ آمَنَ بِكِتَابٍ تَضَمَّنَ الْكُتُبَ الْقَيِّمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَالَّتِي يَعْرِفُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَنَّ الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ لَمَّا غَطَّاهَا الْآتِي بِهَا، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْقِصَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}.يُلَاحَظُ أَنَّ السُّورَةَ فِي أَوَّلِهَا عَنِ الْكُفَّارِ عُمُومًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مَعًا، وَهُنَا الْحَدِيثُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَطْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَخُصُّهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كُتَّابٍ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا سَيَأْتِي بِهِ، {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [2/ 89].وَكَقَوْلِهِ صَرَاحَةً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [42/ 14]، فَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ بَعْدَ مَجِيئِهِ، وَخَصَّهُمْ هُنَا بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ.تَنْبِيهٌ:مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى: {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، أَمْرَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:الْأَوَّلُ مِنْهَا: اخْتِصَاصُ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا بِعَدَمِ عُمُومِ الْحَدِيثِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصٍ.الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا ذَكَرَ الرَّسُولَ يَتْلُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [62/ 2]، فَهَذَا نَفْسُ الْأُسْلُوبِ، وَلَكِنْ قَالَ: {آيَاتِهِ}؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْكُتُبِ الْأُخْرَى، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْآيَاتِ..تفسير الآية رقم (5): {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}:قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.وَهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ التَّفَرُّقَ فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَلَكِنَّ هُنَا لَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، هَلْ هُوَ فِي كُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، أَمْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ؟وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ،فَمِمَّا فِي كُتُبِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [16/ 36].وَقَوْلُهُ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [42/ 13].فَإِقَامَةُ الدِّينِ وَعَدَمُ التَّفْرِقَةِ فِيهِ، هُوَ عَيْنُ عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.وَمِمَّا فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [2/ 40- 43].فَقَدْ نَصَّ عَلَى كَامِلِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا، أَنَّ الْكُتُبَ الْقَيِّمَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ هِيَ كُتُبُ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} وَأَنَّهُمْ أُمِرُوا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ التَّعْلِيمَاتِ الْمَذْكُورَةِ نَفْسِهَا، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عِبَادَةَ اللَّهِ بِإِخْلَاصٍ.وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي كُتُبِهِمْ أَوْ فِي الْقُرْآنِ لَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ، بَلْ تَسْتَوْجِبُ الِاجْتِمَاعَ وَالْوَحْدَةَ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.الْقَيِّمَةُ: فَيْعِلَةٌ مِنَ الْقَوَامَةِ، وَهِيَ غَايَةُ الِاسْتِقَامَةِ.وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [98/ 3]، أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ بِتَعَالِيمِهَا.وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَمُهَا وَأَعْدَلُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9]، وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [18/ 1- 2]، فَنَفَى عَنْهُ الْعِوَجَ، وَأَثْبَتَ لَهُ الِاسْتِقَامَةَ.وَهَذَا غَايَةٌ فِي الْقَوَامَةِ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ الْمُسْتَقِيمَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ انْحِنَاءٌ كَالطَّرِيقِ الْمُعَبَّدِ الْمُسْتَقِيمِ عَنِ الْمُرْتَفَعَاتِ وَالْمُنْخَفَضَاتِ، لَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ تَارَةً يَمِينًا وَشِمَالًا مَعَ اسْتِقَامَتِهِ، فَهُوَ مَعَ الِاسْتِقَامَةِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْعِوَجِ.وَلَكِنْ مَا يَنْتَفِي عَنْهُ الْعِوَجُ وَتَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِقَامَةُ، هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يَمْتَدُّ فِي اتِّجَاهٍ وَاحِدٍ بِدُونِ أَيِّ اعْوِجَاجٍ إِلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ اسْتِقَامَتِهِ فِي سَطْحِهِ.وَهَكَذَا هُوَ الْقُرْآنُ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [98/ 5] الْمِلَّةُ الْقَيِّمَةُ، قَيِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَقَيِّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا: وَمُهَيْمِنَةٌ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [12/ 40]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [6/ 161- 163].تَنْبِيهٌ:إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدًّا صَرِيحًا عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِدُونِ عِلْمٍ إِلَى دَعْوَةٍ لَا تَخْلُو مِنْ تَشْكِيكٍ، حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ لَبْسٍ، وَهِيَ دَعْوَةُ وَحْدَةِ الْأَدْيَانِ، وَمَحَلُّ اللَّبْسِ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ حَقٌّ، وَمِنْهُ بَاطِلٌ.أَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ وَحْدَةُ الْأُصُولِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [98/ 5]، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ الْإِبْهَامُ، بِأَنَّ هَذَا يَنْجَرُّ عَلَى الْفُرُوعِ مَعَ الْجَزْمِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، بِأَنَّ فُرُوعَ كُلِّ دِينٍ قَدْ لَا تَتَّفِقُ كُلُّهَا مَعَ فُرُوعِ الدِّينِ الْآخَرِ، فَلَمْ تَتَّحِدِ الصَّلَاةُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَلَا الصِّيَامُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَفْصِيلٍ لِلْفُرُوعِ، وَالسُّنَّةُ تُكْمِلُ تَفْصِيلَ مَا أَجْمَلَ.وَهُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَهِيَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَادِلَ وَيُسَاوِيَ مَعَ غَيْرِهِ أَبَدًا مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، بِأَنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لَئِنْ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَلَيَتَّبِعُنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ الرُّسُلُ أُمَمَهُمْ بِذَلِكَ. فَلَمْ يَبْقَ مَجَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ لِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعُنْوَانٍ مُجَوَّفٍ وَحْدَةِ الْأَدْيَانِ، بَلِ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ وَحْدَهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [3/ 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [3/ 85] وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
|